فصل: أنواع مفهوم المخالفة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: علم أصول الفقه



.أنواع مفهوم المخالفة:

أما الشرح التفصيلي لهذه القاعدة فيقتضى بيان أنواع مفهوم المخالفة، لأن هذا المفهوم يتنوع بحسب القيد الذي قيد به منطوق النص إلى خمسة أنواع:

.1- مفهوم الوصف:

كقوله تعالى في بيان المحرمات: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} [النساء: 23]، مفهوم المخالفة حلائل الأبناء الذين ليسوا من الأصلاب كابن الابن رضاعا، وكقول الرسول: «في السائمة زكاة» مفهوم المخالفة المعلوفة التي ليست سائمة، وكقوله: «من باع نخلة مؤبّرة فثمرتها للبائع».

.2- مفهوم الغاية:

كقوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، مفهوم المخالفة إذا تزوجت المطلقة ثلاثا زوجا غير مطلقها، وقوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، مفهوم المخالفة إذا تبين الأبيض من الأسود من الفجر.

.3- مفهوم الشرط:

كقوله تعالى: {وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنّ} [الطلاق: 6]، مفهوم المخالفة إن كن لسن أولات حمل، وكقوله تعالى: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} [النساء: 4]، مفهوم المخالفة إذا لم تطب نفس الزوجة عن شيء من مهرها.

.4- مفهوم العدد:

كقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، مفهوم المخالفة الأقل والأكثر من ثمانين، وكقوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196]، مفهوم المخالفة الأقل والأكثر من ثلاثة.

.5- مفهوم اللقب:

كقوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] مفهوم المخالفة غير محمد، وكقول الرسول: «في البر صدقة»: مفهوم المخالفة غير البر، وكقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، مفهوم المخالفة غير الأمهات.
وقد اتفق الأصوليون على عدم الاحتجاج بالنص على مفهوم المخالفة في صورة، وعلى الاحتجاج به في صورة، واختلفوا في الاحتجاج به في صورة.
1- فأما ما اتفقوا على عدم الاحتجاج بالنص على مفهوم المخالفة فيه فهو مفهوم اللقب، والمراد باللقب اللفظ الجامد الذي ورد في النص أسما وعلما على الذات المسند إليها الحكم المذكور فيه. ففي حديث: «في البر صدقة» لفظ البر اسم للحب المعروف الذي أوجبت فيه زكاة. ولا يفهم لغةً ولا شرعاً ولا عرفاً أن ذكر البر احترازاً عما عداه من الحبوب، ولا أنّ ذكر الغنم احتراز عما عداها من السوائم، ولا أن إيجاب صدقة في البر يفهم منه أن لا صدقة في الشعير والذرة وغيرها من الحبوب، ولا أن إيجاب زكاة في الغنم يفهم منه أن لا زكاة في الإبل والبقر وغيرهما. فلهذا اتفق الأصوليين على عدم الاحتجاج بمفهوم المخالفة في اللقب، لأنه لا يقصد بذكره تقييد ولا تخصيص ولا احتراز عما عداه.
ولا فرق في هذا بين النصوص الشرعية ونصوص القوانين الوضعية، وعقود الناس وتصرفاتهم وسائر أقوالهم. فمحمد رسول الله لا يفهم منها أن غير محمد ليس رسول الله، ودين المتوفى يؤدي من تركته لا يفهم منه أن غير دينه كنفقة تجهيزه ووصايا النافذة لا تؤدي إلى تركته، والبيع ينقل الملكية لا يفهم منه أن غير البيع لا ينقله، وأن بيع الحقوق في تركة إنسان على قيد الحياة ولو برضاه غير باطل. ولهذا قال الشوكاني: والقائل بمفهوم المخالفة في اللقب لا يجد حجة لغوية ولا عقلية ولا شرعية، ومعلوم من لسان العرب أن من قال: رأيت زيدا لا يفهم من قوله أنه لم ير غيره. وأما إذا دلت القرينة على العمل في جزئية خاصة فما ذلك إلا للقرينة.
2- وأما ما اتفقوا على الاحتياج بمفهوم الوصف، أو الشروط، أو العدد، أو الغاية، في غير النصوص الشرعية، أي في عقود المتعاقدين وتصرفاتهم، وأقوال الناس وعبارات المؤلفين، ومصطلحات الفقهاء. فقول الواقف: جعلت ربع وقفي من بعدي لأقاربي الفقراء، منطوقة ثبوت الاستحقاق لأقاربه الفقراء، ومفهوم المخالفة له نفي استحقاق أقاربه غير الفقراء، ونصه حجة على الحكمين. وقول الواقف: جعلت ثمن ريع وقفي من بعدي لأرملتي إذا لم تتزوج، منطوقة ثبوت الاستحقاق لأرملته إذا لم تتزوج، ومفهوم المخالفة له نفي استحقاقها إذا تزوجت، ونصه حجة على الحكمين. وهكذا كل عبارة من أي عاقد أو متصرف أو مؤلف أو أي قائل، إذا قيدت بوصف أو شرط أو حددت بعدد أو غاية، تكون حجة على ثبوت الحكم الوارد بها حيث يوجد ما قيدت به، وعلى نفيه حيث ينتفي، لأن عرف الناس واصطلاحاتهم في النفس والتعبير على هذا؛ ولو لم يفهم النفي والإثبات كان التقييد في عرفهم عبثاً، إلا إذا قرينة على أن القيد ليس للتخصيص.
3- وأما الصورة التي اختلف الأصوليون في الاحتجاج بمفهوم المخالفة فيها فهي مفهوم المخالفة في الوصف، أو الشرط، أو الغاية، أو العدد في النصوص الشرعية خاصة. فذهب جمهور الأصوليين إلى أن النص الشرعي الدال على حكم في واقعة؛ إذا قيد بوصف أو شرط بشرط أو حدد بغاية أو عدد، يكون حجة على ثبوت حكمه في الواقعة التي وردت فيه بالوصف أو الشرط أو الغاية أو العدد الذي ذكر فيه، ويكون حجة على ثبوت نقيض حكمه في الواقعة التي وردت فيه إذا كانت على خلاف الوصف، أو الشرط، أو الغاية، أو العدد الذي ذكر فيه. ويسمى حكمه الأول منطوقة، ويسمى حكمه الثاني مفهومه المخالف. فالتحريم للدم المسفوح والتحليل للدم غير المسفوح، كل منهما مدلوله قوله تعالى: {أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} [الأنعام: 145]، وذهب الأصوليون من الحنفية؛ إلى أن النص الشرعي الدال على حكم في واقعة، إذا قيد بوصف أو شرط بشرط، أو حدد بغاية أو عدد، لا يكون حجة إلا على حكمه في واقعته، التي ذكرت فيه بالوصف أو الشرط أو الغاية أو العدد الذي ذكر فيه، وأما الواقعة التي انتقى عنها ما ورد فيه من قيد، فلا يكون حجة على حكم فيها، بل يكون النص ساكتا عن بيان حكمها، فيبحث عن حكمها بأي دليل من الأدلة الشرعية التي منها أن الأصل في الأشياء الإباحة.
استدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بعده أدلة، أظهرها اثنان:
الأول: أن المتبادر إلى الفهم من أساليب العرب وعرفهم في استعمال عباراتهم؛ أن تقييد الحكم بوصف أو شرط، أو تحديده بغاية أو عدد، يدل على إثبات الحكم حيث يوجد القيد، وعلى نفيه حيث ينتفي. فمن قال: مطل الغنى ظلم، يفهم من قوله أن الفقير ليس كذلك، ومن قال: هبب ابنك ساعة إذا نجح، يفهم منه لا تهبه إذا لم ينجح.
ولهذا لما رأى عمر أنهم يقصرون الصلاة في السفر ولا خوف من فتنة الكفار لهم، تعجب من هذا وسأل الرسول: ما بالنا نقصر الصلاة في الأمن؟ فقال الرسول: «صدقة تصدق الله بها عليم فاقبلوا صدقته»، ومنشأ هذا التعجب أن عمر فهم من قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء: 101]، أنهم إن لم يخافوا الفتنة لا يقصرون، وهذا هو مفهوم المخالفة، والرسول في جوابه لم يخطئه في فهمه، وإنما دل على أن الله وسع عليهم ورخص لهم في حال الأمن أيضا.
والثاني: أن القيود التي ترد في النصوص، لابد أن تكون لحكمة، لأن الشارع لا يقيد بوصف أو شرط أو غاية أو عدد عبثا. وأظهر ما يتبادر إلى الفهم أن تكون هذه الحكمة تخصيص الحكم بما وجد فيه القيد. والتخصيص يقتضي نفي الحكم عما لم يوجد فيه القيد. ولا فرق في هذا بين النص الشرعي وغيره من عبارات الناس، إلا إذا دلت قرينة على أن الوصف أو الشرط أو الشرط أو غيرهما، ليس للقيد بل لغرض آخر مثل التفخيم أو المدح أو الذم أو الجري على الغالب، فلا يحتج بمفهوم المخالفة له.
واستدل الأصوليين من الحنفية على مذهبهم بعدة أدلة، أظهرها اثنان:
الأول: إنه ليس مطردا في الأساليب العربية أن تقييد الحكم بوصف أو شرط أو تحديد، بغاية أو عدد، يدل على إثبات الحكم حيث يوجد القيد وعلى نفيه حيث ينتفي. وكثيرا ما ترد العبارة مقيدة، ويتردد السامع في فهم حكم ما في انتفى فيه القيد، ويسأل المتكلم عنه ولا يستنكر عليه السؤال. فمن قال: إذا سألك صباحا فاقض حاجته، لا ينكر على سامعه إذا استفهم عمن سأله مساء. وإذا كانت الدلالة على نفي الحكم حيث ينتفي القيد غير مقطوع بها، فلا يكون النص الشرعي حجة عليه لأن النصوص الشرعية يجب الاحتياط في الاحتجاج بها، ولا تكون حجة بمجرد الاحتمال.
والثاني: أن كثيرا من النصوص الشرعية التي دلت على أحكام وقيدت بقيود، لم ينتف حكمها حيث انتفى القيد، بل ثبت حكم النص للواقعة التي فيها القيد، وللواقعة التي انتقى عنها. فالصلاة في السفر تقصر عن خاف المصلون فتنة الذين كفروا وإن لم يخافوا، مع أن النص شرط القصر بهذا الشرط: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء: 101]. والربيبة تحرم على زوج أمها إذا كانت في حجره، وإذا لم تكن في حجره، مع أن النص قيد التحريم بهذا الوصف:
{وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم} [النساء: 23]. فالاحتياط في فهم النص الشرعي يوجب أن لا يحتج به على نفي الحكم إذا انتفى القيد. وكثير من النصوص، بعد أن ذكرت الحكم المقيد، نصت على مفهوم المخالفة له، مثل قوله تعالى: {مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23]، وقوله: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ} [البقرة: 222]، وهذا دليل على أنه غير مفهوم قطعا من النص السابق، وإلا ما ذكره ثانيا.
ويظهر أثر هذا الخلاف في مثل قوله تعالى في توريث بنات المتوفى: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11]، مع قول الرسول لأخي سعد بن الربيع: «أعط ابنتي سعد الثلثين وزوجة الثمن وما بقى فهو لك»، فعلى مذهب الجمهور يوجد تعارض بين مفهوم المخالفة للآية، وهو أن الواحدة والاثنتين لا يرثن الثلثين، وبين منطوق هذا الحديث الذي ورث البنتين الثلثين، ويرجح المنطوق. وعلى مذهب الأصوليين من الحنفية لا تعارض، لأن الحديث بين حكم واقعة مسكوت عنها في آية توريث البنات.
وفي مثل قوله تعالى في قصر الصلاة في السفر: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء: 101]. مع قصر الرسول الصلاة في السفر حال الآمن وعدم خوف فتنة الذين كفروا، فعلى مذهب الجمهور يوجد تعارض بين مفهوم المخالفة ومنطوق الحديث، وعلى مذهب الأصوليين من الحنفية لا تعارض.
والذي نستخلصه من المقارنة والمقابلة بين أدلة الطرفين: أن النص الشرعي حجة على مفهم المخالفة للوصف أو الشرط أو الغاية أو العدد، ولكن بعد البحث وإمعان النظر والتحقق من أن القيد الوارد في النص، إنما ورد للتخصيص والاحتراز به عما عداه، ولم يرد لحكمة أخرى، ولم يعارض هذا المفهوم بمنطوق نص آخر.
وأما إذا دلت القرينة على أن القيد ليس للتخصيص ولا للاحتراز، بل ورد جريا على الغالب مثل {وربائبكم اللاتي في حجوركم} [النساء: 23] أو لمجرد تفخيم الأمر مثل قول الرسول: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث إلا على زوج»، أو لآية حكمه أخرى يدل عليها سياق النص أو حكمه التشريع، فلا يكون النص حجة على مفهوم المخالفة فيه.
هذا الاحتياط كما تجب مراعاة في النصوص الشرعية، تجب مراعاة في نصوص القوانين الوضعية. ولهذا قررت محكمة النقض في 30 مايو سنة 1935 أن وسائل الإثبات الواردة في مادة (229) من القانون المدني ليست واردة على سبيل الحصر، فلا تكون حجة على أن ما عداها ليست وسيلة للإثبات. وعلى هذا إذا قدمت ورقة في قضية وتناولتها المرافعة بالجلسة، فهذا كاف في إثبات تاريخ الورقة المقدمة في الجلسة.